كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



والخشية لا تكون إلا لله..
كذلك علم الله- سبحانه- أن بعض المستحفظين على كتاب الله المستشهدين؛ قد تراودهم أطماع الحياة الدنيا؛ وهم يجدون أصحاب السلطان، وأصحاب المال، وأصحاب الشهوات، لا يريدون حكم الله فيملقون شهوات هؤلاء جميعاً، طمعاً في عرض الحياة الدنيا- كما يقع من رجال الدين المحترفين في كل زمان وفي كل قبيل؛ وكما كان ذلك واقعاً في علماء بني إسرائيل.
فناداهم الله:
{ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً}..
وذلك لقاء السكوت، أو لقاء التحريف، أو لقاء الفتاوى المدخولة!
وكل ثمن هو في حقيقته قليل. ولو كان ملك الحياة الدنيا.. فكيف وهو لا يزيد على أن يكون رواتب ووظائف وألقاباً ومصالح صغيرة؛ يباع بها الدين، وتشترى بها جهنم عن يقين؟!
إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن؛ وليس أبشع من تفريط المستحفظ؛ وليس أخس من تدليس المستشهد. والذين يحملون عنوان: رجال الدين يخونون ويفرطون ويدلسون، فيسكتون عن العمل لتحكيم ما أنزل الله، ويحرفون الكلم عن مواضعه، لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله..
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}..
بهذا الحسم الصارم الجازم. وبهذا التعميم الذي تحمله من الشرطية وجملة الجواب. بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان، وينطلق حكماً عاماً، على كل من لم يحكم بما أنزل الله، في أي جيل، ومن أي قبيل..
والعلة هي التي أسلفنا.. هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله، إنما يرفض ألوهية الله. فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية. ومن يحكم بغير ما أنزل الله، يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب، ويدعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر.. وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك؟ وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان، والعمل- وهو أقوى تعبيراً من الكلام- ينطق بالكفر أفصح من اللسان؟!
إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل، لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة. والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكلم عن مواضعه.. وليس لهذه المماحكة من قيمة ولا أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد.
وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله، يعود السياق، لعرض نماذج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ليحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا- بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء:
{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص}..
وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام، وأصبحت جزءاً من شريعة المسلمين، التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان.
وإن كانت لا تطبق إلا في دار الإسلام، لاعتبارات عملية بحتة؛ حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام. وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة تنفيذها وتطبيقها، بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة، للأزمان كافة، كما أرادها الله.
وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى:
{فمن تصدق به فهو كفارة له}..
ولم يكن ذلك في شريعة التوارة. إذ كان القصاص حتماً؛ لا تنازل فيه، ولا تصدق به، ومن ثم فلا كفارة..
ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال.
أول ما تقرره شريعة الله في القصاص، هو مبدأ المساواة.. المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة.. ولم تكن شريعة أخرى- غير شريعة الله- تعترف بالمساواة بين النفوس، فتقتص للنفس بالنفس، وتقتص للجوارح بمثلها، على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس..
النفس بالنفس. والعين بالعين. والأنف بالأنف. والأذن بالأذن. والسن بالسن. والجروح قصاص.. لا تمييز. ولا عنصرية. ولا طبقية. ولا حاكم. ولا محكوم.. كلهم سواء أمام شريعة الله. فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله.
إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد الإنسان الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة.. أولاً في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد. وثانياً في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة.
وهو أول إعلان.. وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية، وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي.
ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم- التوراة عنه؛ لا فيما بينهم وبين الناس فحسب، حيث كانوا يقولون: {ليس علينا في الأميين سبيل} بل فيما بينهم هم أنفسهم. على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة، وبني النضير العزيزة؛ حتى جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم فردهم إلى شريعة الله- شريعة المساواة.. ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء!
والقصاص على هذا الأساس العظيم- فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان- هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل، أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر، يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه، وما زينه له اندفاعه؛ وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل- دون نظر إلى نسبه أو مركزه، أو طبقته، أو جنسه- وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة. إذا قطع يداً أو رجلاً قطعت يده أو رجله؛ وإذا أتلف عيناً أو أذناً أو أنفاً أو سناً، أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه.
وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن- طالت مدة السجن أو قصرت- فالألم في البدن، والنقص في الكيان، والتشويه في الخلقة شيء آخر غير الآم السجن.. على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة..
والقصاص على هذا الأساس العظيم- فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان- هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة؛ والذي يذهب بحزازات النفوس، وجراحات القلوب، والذي يسكن فورات الثأر الجامحة، التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية.. وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات. ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص..
وشرعُ الله في الإسلام يلحظ الفطرة- كما لحظها شرع الله في التوراة- حتى إذا ضمن لها القصاص المريح.. راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو- عفو القادر على القصاص:
{فمن تصدق به فهو كفارة له}
من تصدق بالقصاص متطوعاً.. سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل (والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص، أو بالتنازل عن الدم والدية معاً وهذا من حق الولي، إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تغزير القاتل بما يراه) أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروج كلها، فتنازل عن القصاص.. من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه؛ يحط بها الله عنه.
وكثيراً ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو، وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته. نفوساً لا يغنيها العوض المالي؛ ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت.. فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل؟ أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد؟.. إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل، وتأمين الجماعة.. ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله..
روى الإمام أحمد. قال: حدثنا وكيع، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار. فاستعدى عليه معاوية. فقال معاوية: سنرضيه.. فألح الأنصاري.. فقال معاويه: شأنك بصاحبك!- وأبو الدرداء جالس- فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة، أو حط به عنه خطيئة». فقال الأنصارى: فإني قد عفوت..
وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له به التعويض..
وتلك شريعة الله العليم بخلقة؛ وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر، وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها؛ ويسكب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام.
وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة، التي صارت طرفاً من شريعة القرآن، يعقب بالحكم العام:
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}.
والتعبير عام، ليس هناك ما يخصصه؛ ولكن الوصف الجديد هنا هو {الظالمون}.
وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر. وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله. فهو كافر باعتباره رافضاً لألوهية الله- سبحانه- واختصاصه بالتشريع لعباده، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس. وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم، الصالحة المصلحة لأحوالهم. فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة، وتعريضها لعقاب الكفر. وبتعريض حياة الناس- وهو معهم- للفساد.
وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط: {ومن لم يحكم بما أنزل الله}.. فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول؛ ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو من المطلق العام.
ثم يمضي السياق في بيان اطراد هذا الحكم العام فيما بعد التوراة.
{وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}..
فقد آتى الله عيسى بن مريم الإنجيل، ليكون منهج حياة، وشريعة حكم.. ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعاً إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة. وقد جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة، فاعتمد شريعتها- فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة.. وجعل الله فيه هدى ونوراً، وهدى وموعظة.. ولكن لمن؟ {للمتقين}. فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة، هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور؛ وهم الذين تتفتح لهم هذه الكتب عما فيها من الهدى والنور.. أما القلوب الجاسية الغليظة الصلدة، فلا تبلغ إليها الموعظة؛ ولا تجد في الكلمات معانيها؛ ولا تجد في التوجيهات روحها؛ ولا تجد في العقيدة مذاقها؛ ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب.. إن النور موجود، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة، وإن الهدى موجود، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة، وإن الموعظة موجودة، ولكن لا يلتقطها الا القلب الواعي.
وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونوراً وموعظة للمتقين، وجعله منهج حياة وشريعة حكم لأهل الإنجيل.. أي إنه خاص بهم، فليس رسالة عامة للبشر- شأنه في هذا شأن التوراة وشأن كل كتاب وكل رسالة وكل رسول، قبل هذا الدين الأخير- ولكن ما طابق من شريعته- التي هي شريعة التوراة- حكم القرآن فهو من شريعة القرآن. كما مر بنا في شريعة القصاص.
وأهل الإنجيل كانوا إذن مطالبين أن يتحاكموا إلى الشريعة التي أقرها وصدقها الإنجيل من شريعة التوراة:
{وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه}.
فالقاعدة هي الحكم بما أنزل الله دون سواه. وهم واليهود كذلك لن يكونوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل- قبل الإسلام- وما أنزل إليهم من ربهم- بعد الإسلام- فكله شريعة واحدة، هم ملزمون بها، وشريعة الله الأخيرة هي الشريعة المعتمدة:
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}..
والنص هنا كذلك على عمومه وإطلاقه.. وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل. وليست تعني قوماً جدداً ولا حالة جديدة منفصلة عن الحالة الأولى. إنما هي صفة زائدة على الصفتين قبلها، لاصقة بمن لم يحكم بما أنزل الله من أي جيل، ومن أي قبيل.
الكفر برفض ألوهية الله ممثلاً هذا في رفض شريعته. والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله وإشاعة الفساد في حياتهم. والفسق بالخروج عن منهج الله واتباع غير طريقه.. فهي صفات يتضمنها الفعل الأول، وتنطبق جميعها على الفاعل.. ويبوء بها جميعاً دون تفريق.
وأخيراً يصل السياق إلى الرسالة الأخيرة؛ وإلى الشريعة الأخيرة.. إنها الرسالة التي جاءت تعرض الإسلام في صورته النهائية الأخيرة؛ ليكون دين البشرية كلها؛ ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعاً؛ ولتهيمن على كل ماكان قبلها وتكون هي المرجع النهائي؛ ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها. المنهج الذي تقوم عليه الحياة في شتى شعبها ونشاطها؛ والشريعة التي تعيش الحياة في إطارها وتدور حول محورها؛ وتستمد منها تصورها الاعتقادي، ونظامها الاجتماعي، وآداب سلوكها الفردي والجماعي.. وقد جاءت كذلك ليحكم بها، لا لتعرف وتدرس، وتتحول إلى ثقافة في الكتب والدفاتر! وقد جاءت لتتبع بكل دقة، ولا يترك شيء منها ويستبدل به حكم آخر في صغيرة من شئون الحياة أو كبيرة.. فإما هذا وإما فهي الجاهلية والهوى. ولا يشفع في هذه المخالفة أن يقول أحد إنه يجمع بين الناس بالتساهل في الدين. فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة. إنما يريد الله أن تحكم شريعته، ثم يكون من أمر الناس ما يكون:
{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون.